وزير الأوقاف يكتب: من وحي الهجرة
دروس الهجرة كثيرة غير أن هناك مواقف لا يمكن أن تمر بنا أو نمر بها دون أن نقف عندها لاستلهام الدروس والعبر التي تضيئ بعض جوانب حياتنا ، ومن أهم هذه الدروس ، الأمانة في أسمى معانيها ، وذلك أن النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما أراد الخروج من مكة إلى المدينة ترك ابن عمه الإمام علي بن أبي طالب وعهد إليه برد الأمانات التي كان المشركون يودعونها عنده إلى أصحابها ، فعلى الرغم من أن المشركين لم يؤمنوا برسولنا (صلى الله عليه وسلم) فإنهم كانوا لا يجدون أحدًا أكثر منه أمانة يودعون عنده ما يخافون عليه ، وقد تجلى ذلك واضحًا جليًا عندما قال (صلى الله عليه وسلم) : “يا معشر قريش لو أخبرتكم أن خيلا وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ” ، قالوا : ما جربنا عليك كذبًا ، وكانوا يلقبونه (صلى الله عليه وسلم) بالصادق الأمين ، ولما اختلفوا فيما بينهم في وضع الحجر الأسود، رضوا جميعًا به حكمًا ونزلوا على حكمه في ذلك .
وعلى الرغم من أن المشركين قد آذوه وآذوا أصحابه وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم ، لم يخطر ببال رسولنا (صلى الله عليه وسلم) ولا ببال أحد من أصحابه أن يسترد بعض حقه من خلال هذه الأمانات التي كانوا يودعونها عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو عند بعض أصحابه الكرام .
وفي هذا ما يدحض فكر جماعات الاستحلال المتطرفة التي تتخذ من تكفير الناس وسيلة لاستحلال أموالهم بدون حق في انحراف شرعي وفكري وإنساني يفتح أبواب الفوضى ويعيد المجتمعات إلى شريعة الغاب ، مؤكدين أن كل الأموال حرام ، لا يجوز المساس بها أو أخذ شيء منها بدون حق ، سواء أكانت أموالاً لمؤمنين أم لغير مؤمنين ، فلم يبح الإسلام مال أحد من الناس على الإطلاق .
ومن دروس الهجرة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أول ما وصل إلى المدينة أسس بها مسجده الشريف ، تأكيد على أهمية المسجد في حياة المسلمين ، فكان جامعًا وجامعة ومنارة علمية، نشرت النور للعالم كله ، على أنه ظل مسجدًا جامعًا ، ولم يتوسع المسلمون في بناء زوايا أو مصليات ، بحيث تقوم كل جماعة بإنشاء زاوية لهم ينزوون بها إلا في عصرنا الحاضر إما لمصالح مادية ، أو أيدلوجية ، وإما لعدم فهمهم لأهمية المسجد الجامع في حياتنا ، وأنه سمي جامعًا لأنه يجمع الناس ولا يفرقهم .
ومن هنا نؤكد أننا لا يمكن أن نضيق على بناء المساجد لكن من واجبنا أن ننظمه ، وكلما وقع الشيء موقعه كان أعظم أجرًا وثوابًا ، ومن ثمة فإننا نحدد أمام الراغبين في بناء المساجد المناطق الأكثر احتياجًا حتى لا نصير إلى عشوائية البناء بلا تخطيط ، فتكون هناك مناطق في حاجة ماسة إلى المساجد ، ومناطق أخرى بها مساجد عديدة فوق حاجة المنطقة بكثير ، وهناك من يريد مزيدًا من بناء المساجد بها ، مؤكدين أن الأولوية للمناطق الأكثر احتياجًا ، وأن الأولوية قد تكون للمسجد ، وقد تكون في مكان آخر للمدرسة أو المستشفى أو أي مرفق من مرافق الحياة العامة التي لا تقوم حياة الناس إلا بها .
ومن أهم دروس الهجرة التي نتعلمها عمق الفهم وسعة الأفق في فهم المقاصد والغايات ، مع ضرورة مراعاة فقه الواقع والمستجدات والتكيّف معه وبناء الحكم على الفهم الدقيق له , فعندما أسلم صفوان بن أمية قِيلَ له وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ: إِنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، فَقَالَ: لَا أَصِلُ إِلَى بَيْتِي حَتَّى أَقْدُمَ الْمَدِينَةَ. فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ، فَقَالَ: ” مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا وَهْبٍ؟ “. قَالَ: قِيلَ إِنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ” ارْجِعْ أَبَا وَهْبٍ إِلَى أَبَاطِحِ مَكَّةَ فَقَرُّوا عَلَى مِلَّتِكُمْ، فَقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ” .
وفي هذا ما يؤكد ما يقرره أهل العلم من أن الفتوى قد تتغير بتغير الزمان أو المكان أو الحال, فبعد ما كانت الهجرة مطلبًا , حيث يقول الحق سبحانه : ” إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا” , تغير حكم الهجرة بعد فتح مكة , بقوله (صلى الله عليه وسلم) : ” لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ” .
ومن أهم دروس الهجرة – أيضًا – ما ورد بوثيقة المدينة التاريخية من تأصيل وترسيخ لفقه التعايش السلمي بين البشر على أسس وطنية وإنسانية راسخة .